اليوان الصيني واليورو يتنفاسان ليحلا بديل الدولار في التجارة العالمية

لطالما كان الدولار الأمريكي هو العملة المهيمنة في التجارة العالمية، سواء في تسعير السلع أو كعملة احتياط دولية. ولكن في السنوات الأخيرة، بدأت ترتسم ملامح تغير محتمل في هذا التوازن النقدي، حيث تتصاعد الأصوات المنادية بتقليص الاعتماد على الدولار والبحث عن بدائل أكثر استقرارًا أو توافقًا مع المصالح الاقتصادية للدول غير الغربية.
في هذا السياق، يبرز كل من اليورو الأوروبي واليوان الصيني كأبرز المنافسين المحتملين للدولار. فهل يمكن لأي منهما أن يُحدث تحولًا حقيقيًا في النظام المالي العالمي؟ وهل يمكن أن يصبحا بديلين فعالين للدولار في التجارة العالمية؟
اليورو طموح أوروبي يصطدم بالواقع المؤسسي
تسعى أوروبا، منذ إطلاق عملة اليورو، إلى تعزيز مكانتها الاقتصادية وجعل اليورو أحد أعمدة النظام المالي العالمي. وفي هذا السياق، صرّحت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد مؤخرًا أن اليورو يمتلك المقومات الكافية ليكون بديلًا فعّالًا للدولار في التجارة العالمية. وأكدت أن تعزيز البنية المالية والقانونية للاتحاد الأوروبي شرط أساسي لتحقيق هذا الهدف.
لكن بالرغم من هذا الطموح، يواجه اليورو عدة تحديات:
- التفاوت الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي، الذي يضعف من استقرار اليورو كعملة موحدة.
- الاعتماد على الدولار في تسعير السلع مثل النفط والغاز، وهو ما يُبقي الدولار في موقع الصدارة.
- تراجع الوزن الاقتصادي النسبي لأوروبا عالميًا، في ظل تصاعد نجم الصين والأسواق الناشئة.
وبحسب لاغارد، فقد انخفضت حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية إلى 58%، وهو أدنى مستوى منذ عقود، في حين تبلغ حصة اليورو نحو 20% فقط. رغم ذلك، لا تزال هناك فجوة كبيرة في الاستخدام الفعلي لليورو في التجارة العالمية، إذ أن نسبة تمويل التجارة به لا تتجاوز 6%.

اليوان الصيني صعود حذر يقوده قرار سياسي
من ناحية أخرى، تتعامل الصين مع فكرة تقليص الاعتماد على الدولار كجزء من استراتيجيتها طويلة المدى لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي. وقد طلب البنك المركزي الصيني مؤخرًا من البنوك الكبرى في البلاد رفع نسبة استخدام اليوان في المعاملات التجارية العابرة للحدود من 25% إلى 40%.
رغم أن هذا المطلب ليس ملزمًا قانونيًا، إلا أن البنوك التي لا تلتزم به قد تواجه تقييمات تنظيمية أقل، ما يحد من قدرتها على التوسع. وهذا يوضح مدى إصرار بكين على تحويل اليوان إلى عملة دولية مؤثرة.
وقد صرّح الخبير الاقتصادي الدكتور ناصر السعيدي في مقابلة تلفزيونية أن الرنمينبي (اليوان الصيني) مرشح لأن يتفوق على اليورو في الأهمية خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة، نظرًا إلى:
- قوة الاقتصاد الصيني ونموه السريع.
- الشراكات التجارية المتزايدة مع الدول العربية والآسيوية.
- تنامي الرغبة في الابتعاد عن الاعتماد الحصري على الدولار.
التأثيرات الجيوسياسية ساحة تنافس العملات
التوجه العالمي نحو تنويع العملات المستخدمة في التجارة ليس مجرد قرار مالي، بل هو في صميم التوازنات الجيوسياسية. فقد دفعت السياسات التجارية التصعيدية للولايات المتحدة، خاصة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، العديد من الدول إلى التفكير جديًا في تقليص انكشافها على الدولار.
كما أن التقلبات الاقتصادية في الولايات المتحدة – من تضخم مرتفع وأسعار فائدة متقلبة، إلى الركود التضخمي – تدفع المستثمرين والحكومات إلى البحث عن عملات أكثر استقرارًا أو تنوعًا. ولهذا بدأنا نرى ازديادًا في الطلب على الذهب، وكذلك في استخدام العملات البديلة كاليورو واليوان.
تنويع سلة العملات حل استراتيجي لمخاطر الدولار
أحد أبرز النقاط التي شدد عليها الخبراء هو ضرورة تنويع سلة العملات التي تعتمد عليها الدول، خاصة تلك المعتمدة بشكل كبير على التجارة الدولية أو النفط. فمثلًا، يؤثر ضعف الدولار بشكل مباشر على ارتفاع معدلات التضخم في دول الخليج، كما يتسبب في اضطراب الأسواق المالية نتيجة التقلبات الحادة في قرارات السياسة النقدية الأمريكية.
من هنا، فإن الابتعاد التدريجي عن الدولار لا يعني بالضرورة الاستغناء الكامل عنه، بل بناء منظومة نقدية أكثر تنوعًا واستقرارًا، يكون فيها لليورو واليوان أدوار حقيقية ومتكاملة.
ما الذي تحتاجه اليورو واليوان ليصبحا بديلين فعليين؟
رغم الجهود المتصاعدة من بكين وبروكسل، فإن التحول الكامل نحو بدائل الدولار في التجارة العالمية يحتاج إلى شروط أساسية، أهمها:
- الاستقرار السياسي والمؤسسي: لا يمكن للعملة أن تنافس الدولار دون نظام مالي وسياسي شفاف ومؤسسات مستقلة.
- حرية تحويل العملة: ما زال اليوان يعاني من القيود في التحويل، ما يعوق اعتماده عالميًا.
- الثقة الدولية: بناء الثقة يتطلب وقتًا وسياسات واضحة وطويلة الأجل.
- الدعم من الشركاء التجاريين: تعزيز التعاون مع الاقتصادات الكبرى الناشئة والمتقدمة.
هل آن الأوان لتوديع الدولار؟
رغم كل المؤشرات على تراجع هيمنة الدولار، فإن استبداله ليس بالأمر السهل أو السريع. فالدولار لا يزال يحتفظ بقوة هائلة بفضل حجمه في الأسواق المالية وسهولة تداوله وموثوقيته الدولية. ولكن، قد نكون أمام مرحلة انتقالية يتم فيها إعادة توزيع الأدوار، بحيث يصبح العالم متعدد العملات بدلاً من الهيمنة الأحادية للدولار.
ختامًا
في خضم هذه التحولات، يظهر جليًا أن مستقبل التجارة العالمية يتجه نحو تنويع الخيارات النقدية. قد لا يكون من الواقعي الحديث عن “استبدال فوري” للدولار، لكن المؤكد أن اليورو واليوان يكتسبان زخمًا متزايدًا كبدائل استراتيجية في النظام الاقتصادي العالمي.
ولذلك، من المهم أن تتابع الدول والشركات والمؤسسات المالية هذا التحول عن كثب، وتعيد تقييم استراتيجياتها النقدية بما يتلاءم مع الواقع الجديد.
هل سنشهد في العقد القادم تحولًا جذريًا في شكل التجارة العالمية؟ قد يكون الجواب أقرب مما نتصور.
تابعنا لمزيد من التحليلات العميقة حول مستقبل العملات والاقتصاد العالمي.