عودة البنوك إلى سوريا بعد رفع العقوبات》وإحياء الاقتصاد السوري

في خطوة توصف بأنها تاريخية ومفصلية، بدأ مصرف سورية المركزي تنفيذ خطة متكاملة لإعادة بناء النظام المصرفي في البلاد، بالتزامن مع بدء رفع العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة منذ عقود. ووفقًا لتصريحات “عبد القادر الحصرية” حاكم المصرف، فإن رفع العقوبات يمثل بداية انفراجة اقتصادية حقيقية، خاصة في القطاع المالي الذي يعتبر العمود الفقري لإعادة الإعمار والتنمية المستدامة.
في هذا المقال، نسلط الضوء على أبرز التحولات الجارية في المشهد المصرفي السوري، بدءًا من تأهيل البنوك، ومرورًا بجذب الشركاء الاستراتيجيين، ووصولاً إلى آفاق استعادة العضوية في المؤسسات المالية الدولية. كما نناقش أهمية حصر الأموال المجمدة، والفرص المستقبلية التي تنتظر سوريا في حال استمرار تخفيف العقوبات.
حصر الأموال المجمدة وإعادة التموضع المالي
من أولى الخطوات التي باشر بها مصرف سورية المركزي هي حصر الأموال السورية المجمدة في الخارج. هذه الخطوة لا تتعلق فقط بتقييم الأصول، بل تمثل محاولة لإعادة توجيه الموارد المالية نحو الداخل، وتمويل مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار.
إجمالي هذه الأموال لا يزال غير مُعلن بشكل دقيق، لكن مصادر رسمية أشارت إلى أنها موزعة بين بنوك أجنبية ومؤسسات دولية جُمدت أموالها بفعل العقوبات التي طالت سوريا منذ عام 1979. رفع هذه العقوبات، سواء بشكل جزئي أو كامل، قد يتيح استرداد تلك الأموال، ما يعزز من السيولة النقدية ويساهم في تنشيط الاقتصاد الوطني.

تأهيل البنوك المحلية وفق المعايير الدولية
واحدة من أولويات مصرف سورية المركزي حاليًا هي تأهيل النظام المصرفي المحلي ليواكب المتغيرات العالمية. ويتضمن ذلك تحديث البنية التحتية للمصارف، ومواءمة الأنظمة مع قواعد الحوكمة العالمية، وتطبيق معايير الشفافية والمساءلة.
في سوريا اليوم، توجد 6 بنوك حكومية و15 بنكًا خاصًا. هذه المصارف لم تُتح لها فرص التطوير الحقيقي خلال سنوات الحرب والعقوبات، لكن مع رفع القيود وبدء مرحلة جديدة من الانفتاح، باتت الفرصة سانحة أمامها لاستعادة فعاليتها كمحركات تمويل واستثمار.
يؤكد “الحصرية” أن المصرف المركزي يولي أهمية كبيرة لمساعدة البنوك على تحقيق الجاهزية الكاملة للمشاركة في تمويل مشاريع إعادة الإعمار. هذا التأهيل يشمل أيضًا التدريب، تطوير التكنولوجيا المالية، واعتماد برامج متقدمة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، تماشيًا مع المعايير الدولية.
رفع العقوبات ونقطة تحول اقتصادية
قرار رفع العقوبات عن سوريا لا يُعد تطورًا محليًا فقط، بل يحمل بعدًا إقليميًا ودوليًا. ففي منتصف مايو الجاري، أعلن الرئيس الأميركي السابق “دونالد ترمب” عن تخفيف القيود المفروضة على سوريا، تجاوبًا مع طلب مباشر من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وفق ما أفادت به مصادر رسمية.
بعد ذلك بأيام قليلة، اتخذ الاتحاد الأوروبي خطوة مماثلة من خلال التعهد برفع العقوبات الاقتصادية، والعودة للمساهمة في مشاريع إعادة الإعمار. ورغم أن العملية تحتاج إلى توافق بين 27 دولة عضو، فإن الخطوة تُعد إشارة إيجابية تدفع باتجاه إعادة الاندماج السوري في الاقتصاد العالمي.
رفع العقوبات لا يعني فقط فك الحصار، بل يفتح الباب أمام عودة البنوك الأجنبية، ودخول استثمارات جديدة، واستئناف التحويلات المالية الدولية، وكل ذلك ضروري لبناء اقتصاد متماسك من جديد.
بنوك عربية وأجنبية على أعتاب السوق السوري
ربما أحد أبرز الأخبار السارة التي حملها اللقاء الأخير مع الحاكم الحصرية هو اهتمام بنوك عربية وأجنبية بالدخول إلى السوق السورية. ويجري حاليًا نقاش فعلي مع عدد من المصارف الإقليمية، إضافة إلى مؤسسات مالية دولية، لتقييم البيئة المصرفية السورية وإمكانية استئناف النشاط فيها.
وجود بنوك جديدة لا يساهم فقط في زيادة عدد اللاعبين في السوق، بل يُنعش مستوى المنافسة، ويُدخل التكنولوجيا الحديثة، ويُحدث نقلة نوعية في الخدمات المصرفية. كما يمكن لهذه البنوك أن تكون شريكًا مباشرًا في تمويل مشاريع البنية التحتية والسكن والطاقة، وهي ملفات رئيسية في خطة إعادة الإعمار.
عودة سوريا إلى مجموعة البنك الإسلامي للتنمية
أحد التحولات المهمة الأخرى هو استعادة عضوية مجموعة البنك الإسلامي للتنمية، والتي كانت قد سُحبت في وقت سابق. وفق تصريحات الحصرية، فإن هذه العودة تعني استئناف مشاريع تنموية مهمة في مجالات التعليم، الأمن الغذائي، والطاقة، وهي قطاعات حيوية في مرحلة ما بعد الحرب.
كما تجري حالياً مفاوضات لجدولة المتأخرات المستحقة على سوريا لصالح البنك، وهو ما سيساهم في فتح خطوط تمويل جديدة مستقبلاً، واستقطاب استثمارات في مشاريع مستدامة تعتمد على شراكات قوية.
تحديات قائمة ولكنها قابلة للتجاوز
رغم التطورات الإيجابية، لا يمكن تجاهل التحديات العديدة التي تواجه القطاع المصرفي في سوريا. من أبرزها:
- ضعف البنية التحتية المالية نتيجة الحرب.
- نقص الكوادر المدربة على التعامل مع الأنظمة الحديثة.
- انعدام الثقة الدولية بعد سنوات من العزلة والعقوبات.
- الاحتياج إلى بيئة تشريعية وتنظيمية مرنة تشجع الاستثمار وتضمن الحوكمة.
لكن مع العمل على رفع القيود، وبدء خطوات عملية في تأهيل البنوك، وفتح قنوات تعاون جديدة مع الشركاء الإقليميين والدوليين، تبدو هذه التحديات قابلة للتجاوز على المدى المتوسط.
ختامًا
رفع العقوبات عن سوريا ليس مجرد قرار سياسي، بل هو بوابة حقيقية لإحياء الاقتصاد وبناء مستقبل مختلف للبلاد. القطاع المالي هو حجر الزاوية في هذا التحول، ومصرف سورية المركزي يبدو عازمًا على تحويل هذه اللحظة إلى نقطة انطلاق فعلية نحو نظام مصرفي قوي، عصري، وقادر على خدمة التنمية.
الرهان الآن على حُسن التنفيذ، واستمرار التفاعل الدولي الإيجابي، وتوفير مناخ استثماري مشجع وجاذب. وإذا نجحت سوريا في هذه المرحلة، فستكون على موعد مع طفرة اقتصادية ومصرفية تعيدها تدريجيًا إلى الخريطة المالية الإقليمية والعالمية.
تابعنا لتغطيات أعمق وتحليلات متواصلة عن تحولات الاقتصاد السوري، وأبرز الخطوات التي تقودها المصارف في طريق التعافي.