الركود التضخمي | لعنة الاقتصاد التي تجمع بين النار والجليد

كثيرًا ما نتعامل مع مفاهيم واضحة وسيناريوهات معتادة: ارتفاع في الأسعار يعني اقتصادًا مزدهرًا، بينما الركود يُشير إلى تباطؤ في الأنشطة التجارية وغياب النمو. لكن ما الذي يحدث عندما يتوحّد التضخم مع الركود في آنٍ واحد؟ كيف يمكن أن يعيش الاقتصاد في حالة من ارتفاع الأسعار الحاد، بينما يعاني في الوقت ذاته من بطالة مرتفعة، وانخفاض في الإنتاج، وتراجع في معدلات الطلب؟
هذا ما يُعرف بالركود التضخمي، أو كما يُسميه البعض “المعضلة الكبرى”، لأنه يضع السياسات النقدية والمالية في مأزقٍ عميق، ويخلق وضعًا اقتصاديًا متناقضًا لا يمكن معالجته بسهولة. هو ليس مجرد ظاهرة عابرة أو مصطلح أكاديمي، بل تجربة حقيقية تترك بصمتها على حياة الناس اليومية، من أسعار الطعام في الأسواق إلى فرص العمل المتاحة، ومن قيمة العملة المحلية إلى مستقبل الاستثمارات.
كيف يمكن أن يجتمع الركود مع التضخم؟
لنبدأ من المفارقة الكبرى: التضخم و الركود مفهومان متناقضان بطبيعتهما. التضخم يحدث حين يرتفع الطلب على السلع والخدمات، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها نتيجة لزيادة الإنفاق. أما الركود، فهو حالة من الانكماش الاقتصادي تُصاحبها قلة في الإنفاق وانخفاض في الطلب. فمن المنطقي أن يكون أحدهما نقيضًا للآخر. ولكن في حالات الركود التضخمي، تنهار هذه القاعدة، وتختلط الأوراق، فيحدث ما لم يكن في الحسبان:
الاقتصاد يتراجع، الناس يفقدون وظائفهم، الإنتاج ينكمش، ومع ذلك تستمر الأسعار في الارتفاع بوتيرة متسارعة.
هنا ندخل في حالة شاذة عن قواعد الاقتصاد الكلاسيكي، حالة تتطلب إعادة تقييم لكيفية فهمنا للأسواق والتضخم والسياسات النقدية. فكل أداة تُستخدم لمعالجة جانبٍ من المشكلة تؤدي إلى تفاقم الجانب الآخر.

وعليه، تُصبح إدارة الاقتصاد في مثل هذه الظروف مثل السير على حبل مشدود، حيث أي انحراف بسيط قد يُسقط المنظومة برمتها في فوضى اقتصادية عارمة.
ما هو الركود التضخمي؟ معادلة من نار وجليد
الركود التضخمي، أو “Stagflation”، هو حالة اقتصادية نادرة نسبيًا، لكنها في غاية الخطورة، لأنها تُعبّر عن اجتماع عنصرين متناقضين:
الركود الاقتصادي (أي تباطؤ أو تراجع الناتج المحلي الإجمالي وزيادة معدلات البطالة)، والتضخم (أي ارتفاع مستمر في أسعار السلع والخدمات). هذه الحالة تصيب الاقتصاد بحالة من الشلل المركب، حيث لا يستطيع النمو أن يتحقق بسبب تراجع الإنتاج والاستثمار، ولا يستطيع المواطن البسيط أن يُحسّن من معيشته بسبب ارتفاع تكلفة الحياة وانخفاض قيمة النقود.
وهنا يظهر التعقيد الحقيقي: فالحكومات حين تواجه ركودًا اقتصاديًا، تُحاول عادةً تحفيز الطلب عبر خفض الفائدة أو زيادة الإنفاق العام. أما عند مواجهة التضخم، فتقوم بعكس ذلك تمامًا: ترفع الفائدة وتُقلّص الإنفاق لكبح الأسعار.
لكن ماذا تفعل عندما يُهاجمك الركود والتضخم معًا؟ أي مسار ستسلك وأنت تعرف أن أي إجراء سيُعالج جانبًا وسيفاقم الآخر؟ هذه هي المعضلة التي جعلت من الركود التضخمي أحد أكبر التحديات في تاريخ السياسات الاقتصادية الحديثة.
الفرق بين الركود التضخمي والتضخم
من السهل أن يختلط على غير المتخصصين مفهوم الركود التضخمي مع التضخم العادي، لأن كليهما يرتبط بارتفاع الأسعار. لكن الفارق الجوهري بينهما يكمن في السياق الاقتصادي الذي يحدث فيه كل منهما. ففي التضخم الطبيعي، غالبًا ما يكون الاقتصاد في حالة نمو وازدهار، ما يعني أن ارتفاع الأسعار يأتي نتيجة لزيادة الطلب، وتحسُّن مستويات الدخل، وتوسع في النشاط الاقتصادي. بمعنى آخر، التضخم هنا نتيجة إيجابية لاقتصاد قوي.
أما في حالة الركود التضخمي، فإن الأسعار ترتفع في وقتٍ يعاني فيه الاقتصاد من تباطؤ حاد، وتراجع في الإنتاج، وتزايد في نسب البطالة. الناس لا يمتلكون المال، ومع ذلك، ترتفع الأسعار. القوة الشرائية تنهار، ولا يعود بمقدور المستهلك العادي تحمّل أعباء المعيشة. هذا التضخم تحديدًا يُعتبر الأخطر، لأنه لا ينبع من وفرة، بل من ندرة وإجهاد اقتصادي.
وهو ما يجعل صناع القرار في حيرة، حيث يصبح كل خيار سياسي أو نقدي محفوفًا بالمخاطر ومحدود الفعالية.
ما الذي يُشعل نار الأسعار وسط برود الاقتصاد؟
رغم أن الركود التضخمي ليس ظاهرة متكررة، إلا أن تكرار بعض الظروف قد يُمهّد لظهوره، وخاصة في الأوقات التي تتصادم فيها سياسات الاقتصاد مع وقائع الأسواق. ومن أبرز الأسباب التاريخية والمعاصرة التي تساهم في نشوء هذه الظاهرة المعقدة:
1. فوضى السياسات الاقتصادية
عندما تُطبّق الحكومات سياسات مالية ونقدية متضاربة، فإنها تُنتج بيئة خصبة لنمو التضخم رغم تباطؤ الاقتصاد. على سبيل المثال، طباعة النقود بشكل مفرط دون مقابل من السلع والخدمات يؤدي إلى تآكل قيمة العملة، مما يرفع الأسعار بشكل مصطنع، حتى في ظل تباطؤ النشاط الاقتصادي.
2. إلغاء قاعدة الذهب وفوضى العملات الورقية
حين تم إلغاء ربط الدولار بالذهب في السبعينيات، تحولت العملات إلى مجرد أوراق تعتمد على الثقة، لا على قيمة مادية حقيقية. هذا التحول فتح الباب واسعًا أمام التضخم، لأن البنوك المركزية باتت قادرة على ضخ الأموال دون قيد، مما يُؤدي إلى تدهور القوة الشرائية وارتفاع الأسعار، حتى عندما لا يكون هناك نمو فعلي في الاقتصاد.
3. صدمات العرض العالمية
أحيانًا، تأتي الصدمة من الخارج، كما حدث في أزمة النفط عام 1973، حين قامت الدول العربية بحظر تصدير النفط، فارتفعت أسعار الطاقة بشكل جنوني. هذه الصدمة رفعت تكاليف الإنتاج عالميًا، فارتفعت الأسعار، وتباطأ الإنتاج، وتدهورت القدرة الشرائية للمستهلكين. النتيجة كانت ركودًا تضخميًا عالميًا هزّ أركان الاقتصاد الرأسمالي بأسره.
كيف يمكن الخروج من فخ الركود التضخمي؟
مواجهة الركود التضخمي أشبه بمحاولة إطفاء حريق في غرفة ممتلئة بالغاز، حيث أن كل خطوة خاطئة قد تؤدي إلى تفاقم الكارثة. لذا، تختلف استراتيجيات العلاج حسب المدرسة الاقتصادية، والظرف السياسي، ومدى قدرة الدولة على التحمل:
– المدرسة النقدية
تعتمد على كبح المعروض النقدي، ورفع أسعار الفائدة، حتى لو أدى ذلك إلى تفاقم البطالة مؤقتًا. ترى هذه المدرسة أن كسر حلقة التضخم هو الأولوية، وأن النمو لن يتحقق إلا بعد استقرار الأسعار.
– اقتصاديات جانب العرض
تُركّز على زيادة الإنتاج وتخفيض التكاليف، عبر تحفيز الصناعات الوطنية، وتبسيط الأنظمة الضريبية، وتوفير بيئة استثمارية مرنة. ترى هذه المدرسة أن الحل يبدأ من دعم المنتجين، لا من خنق المستهلكين.
– قوى السوق الحرة
بعض الاقتصاديين يُفضّلون عدم التدخل، ويعتمدون على أن السوق سيُعيد توازنه ذاتيًا مع مرور الوقت. لكن هذه الرؤية تتطلب صبرًا كبيرًا، وقد تكون قاسية جدًا على المجتمعات الفقيرة.
هل العملات الرقمية تتأثر بالركود التضخمي؟
في خضم الركود التضخمي، يلوذ البعض بالعملات الرقمية كملاذٍ ضد التضخم. لكن الحقيقة أن هذه الأصول تُظهر سلوكًا متقلبًا في مثل هذه الظروف. فمع تراجع القدرة الشرائية، يقل الطلب على الأصول الخطرة مثل العملات المشفرة. كما أن ارتفاع أسعار الفائدة يجعل من الأصول التقليدية أكثر جذبًا للمستثمرين.
ورغم أن البيتكوين يُروّج له كأصل نادر ومقاوم للتضخم، إلا أن فعاليته في هذا السياق تظل محل جدل بين المختصين، خاصة في ظل عدم استقراره وتقلّباته الشديدة.
ختامًا
الركود التضخمي ليس مجرد أزمة… بل تحدٍ للبقاء الاقتصادي، الركود التضخمي هو أشبه بعاصفة اقتصادية تجمع كل العناصر المخيفة: بطالة، وغلاء معيشة، وضعف استثماري، وتآكل مدخرات. هو امتحان قاسٍ ليس فقط للحكومات، بل أيضًا للمواطن العادي الذي يرى دخله يتبخر وأسعاره ترتفع بلا هوادة.
في مثل هذه الأزمات، لا يكفي امتلاك أدوات تقليدية، بل يجب التحلي بالحكمة، والتخطيط بعيد المدى، والجرأة في اتخاذ قرارات استثنائية. فمواجهة الركود التضخمي لا تتم بالأمنيات، بل عبر سياسات مُتكاملة، ومواجهة حقيقية لجذور المشكلة، لا مظاهرها فقط.
في النهاية، حين يتوحش الاقتصاد ويتصارع مع نفسه، يبقى الأمل في أن تُولد من رحم الأزمات دروسٌ تُنقذ الأجيال القادمة من تكرار المأساة.